الأمن الديني وتوحيد المرجعيات ودورهما في استقرار دول الساحل ومحاربة التطرف


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

وبعد،Fichier 02-03-2017 09 51 51

اسمحو لي في البداية أن أهنئ منظمي هذه الندوة الدولية على تنظيمها، وعلى اختيارهم لهذا العنوان الذي يتجاوز القشور إلى العمق، والمظاهر إلى الجوهر، ويحاول وضع الأصبع على مكامن الخلل، وتوصيف الدواء الناجع للداء بعد تشخصيه.

وسأبدأ ورقتي هذه بوقفة – ولو موجزة – مع مصطلحات عنوان هذه الندوة الدولية، فالمصطلحات هي المفاتيح، وتجاوزها يشكل خطئا منهجيا أترفع بندوتنا عن الوقع فيه.

ومعالجة عنوان الندوة يمكن أن يتم من خلال زاويتين، أولاهما تفكيكية، والثانية تركيبية:

1-                الزاوية التفكيكية: تنظر لوحدات العنوان بعزلها عن سياقها الذي وردت فيه.

2-                أما الزاوية التركيبية: فتنظر للعنوان في شكله السياقي، وباعتباره كتلة واحدة تشكل معنى واحدا.

وينجر عن عملتي التفكيك والتركيب جملة من الإجراءات المفاهيمية، تتمفصل إلى محددات ومقترحات، نحاول تناولها من خلال المنهجية التالية:

 Fichier 02-03-2017 09 53 34

أولا: وقفة مع وحدات العنوان:

1-                الأمن الديني:

يمكن لهذا المفهوم أن يأخذ أكثر من دلالة، وذلك باختلاف زاويته التي يتم تعريفه من خلالها، وبغض النظر عن الاختلاف في تعريفاته فإن هدفه يكاد يكون محل إجماع بين الدارسين والمهتمين، إذ هو الانسجام في الانسجام في الخطاب الديني والبعد عن التنازع والجنوح إلى العيش المشترك، والشعور بالتساوق الفكري والمذهبي رؤية وممارسة وتنظيرا.

وقد كانت منطقة الساحل – على مر تاريخها – تعيش أمنا دينيا يكاد يكون منق طع النظير، وكان لوحدة المرجعية الدينية دورها البارز في ذلك، ورغم وقوع حروب ونزاعات فيها خلال القرون الماضية فإن الطابع الدنيوي المادي كان غالبا عليها، وظلت المرجعية الدينية للمتنازعين واحدة، مع استثناءات قليلة تثبت القاعدة العامة ولا تلغيها.

ويمكن لمن يتعمق في معرفة تاريخ منطقة الساحل أن يتصور أن وحدتها المذهبية، وانسجام مرجعيتها الدينية كان نتيجة إكراه، أو جراء تعسف، لكن الدارس المتمكن، والباحث المتعمق سيدرك أن العكس هو الصحيح، وأن المنطقة كان يسودها جو من الحرية في إطار المرجعية الواحدة يسمح للأفراد والجماعات بممارسة خصوصياتها دون تعصب أو انغلاق في جو من التعايش والتعدد، والعيش المشترك.

وكان الأمن الديني بمفهومه الشامل يضمن للمجتمع التفاعل بانسيابية، وتبادلية يصغي في الآخر للآخر دون إقصاء، وتمارس فيه التعددية دون هيمنة، ويسودها انسجام عام لا يقضي على الخصوصية.

وعلى ذكر الأمن الديني حري بنا أن نعرض لمفهوم الأمن الديني كما ورد في القرآن فهو أولا يقوم على التفريق بين التعايش مع الآخر الخارج عن انطلاقا من التعايش الذي قوامه التعارف { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } وعلى أساس السلم الذي مرده المسالمة {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وعلى أساس المحاججة بالتي هي أحسن {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

أما المستوى الثاني فهو الذي يؤسس للعلاقة بين المؤمنين أخوة ورحمة { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وحفظا للأعراض ولأموال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ } (المسلم أخوا المسلم لا يظلمه ولا يشتمه ولا يحقره).

إن الأمن في تصور الإسلام قائم على أساس القوة مع الآخر التي تحترم خصوصياته والرحمة بالمؤمن القائمة على التغاضي وحسن الظن وبذل المعروف.

لقد ضمن المذهب المالكي بموسوعيته، وشمولية قواعده، ومرونة الاجتهاد فيه، والتصوف بروحانيته، وتقبل شعوب المنطقة له للمنطقة أن تعيش في أمن ديني حقيقي طيلة القرون الماضية، وظل ذلك ديدنه إلى أن حصلت صروف خلال العقود الأخيرة طالت تغيراته كل شيء، وكان حظ منطقة الساحل منها متمثلا في اهتزاز أمنه الديني في بعض المناطق، وانخرام وحدته المرجعية، فيما غابت العلاجات الناجعة في بدايات الآفة، فاستفحلت، واستنسر بغاثها، وعاث في المنطقة ما شاء أن يعيث.

لقد كانت المظالم التي رزحت تحتها أقليات عديدة في المنطقة عاملا لانتشار فوضى أمنية في المنطقة حيث اعتبرت هذه الأقليات أن التعاطي الدولي والإفريقي  مع  مظالمها تميز بالازدواجية والتعميم ولم تجد صدى لصوتها المبحوح ثم ازداد الطين بلة حين اتخذت القوى الدولية محاربة التطرف ذريعة لغزو المنطقة فيما اعتبرت الأقليات هذا الغزو عودة لاستعمار جديد ومن ثم وجدت الحركات حاضنة اجتماعية في هذه الأقليات فتعقد الوضع وتداخل ما هو من صميم الحقوق بالسياسي والأمني.. الخ

 Fichier 02-03-2017 09 52 10

2-                توحيد المرجعيات:

لعل كلمة توحيد المرجعيات تشي بنوع من التناقض مع ما تحدثنا عنها في العنوان السابق من حرية وتنوع لا يشوش على الأمن الديني، ولكن شبهة التناقض هذه ترتفع حين ننظر إلى وحدة المرجعيات باعتبارها دعما للتوحد، وليس حملا على المشاكلة القسرية، أو التنميطية للجميع، إنها بمفهوم آخر نزع إلى البحث عن المشترك ومحاولة للتشبث به وتوسيع دائرته في المجالات والعناوين المرجعية، سواء ما يتعلق منها بتفسير وتطبيق النصوص الشرعية.

ولو أخذ هنا المذهب المالكي الذي ظل لقرون عديدة أداة توحيد بين شعوب منطقة دول الغرب الإسلامي، بل والغرب الإفريقي ككل، والطرق الصوفية التي انتظمت هذه الشعوب والعرقيات المختلفة، لوجدنا أن هذا التوحد في المرجعية الفقهية كان له الدور الأكبر في نزع فتيل الخلاف، وإرساء دعائم التعايش بين شعوب مختلفة الأعراق، متعددة اللغات، والعادات والتقاليد.

وغني عن القول إن توحيد المرجعيات لا يعني كبت التنوع، بقدر ما يهدف إلى شرعنته، وتحديد مجالاته، كما لا يهدف إلى إلغاء الخصوصية بقدر ما يهدف إلى إخضاعها لنواميس ناظمة، وآليات ضامنة لتحويلها إلى آلية تنوع وعطاء، بدل استخدامها كأداة تفرق وصراع.

ولعل مما يدعم توحيد المرجعيات الجنوح إلى الحوار مع أصحاب التطرف من خلال محاورتهم مع العلماء ذوي الرسوخ والتمكن وهي تجربة أثبتت نجاعتها في موريتانيا من خلال حوار علماء أجلاء مع شباب في السجن أدت إلى رجوع كثير منهم عن أفكاره ، كما تلعب المؤسسات ذات الطابع التعليمي دورا فاعلا في بث الخطاب الديني المعتدل وخمل الناس على الطريق الوسط وفي موريتانيا أدت قناة المحظرة وإذاعة القرآن الكريم أدوارا جيدة في هذا السياق.

 Fichier 02-03-2017 09 53 57

3-                الاستقرار والتطرف:

لا جرم أن كلمتا الاستقرار والتطرف مفتاحيتان في هذا الموضوع إلى حد كبير، فهما تحددان هدف التوحيد، وشكل الأمن الديني، ومعنى ذلك أنهما تستشعران خطرا يواجه منطقة الساحل مصدره لجوء بعض الأطراف إلى إلباس نشاطها المتطرف طابعا دينيا يؤدي إلى انفلات أمني، وفوضى اجتماعية.

       فالاستقرار هنا هدف منشود، والتطرف خطر داهم، والدين، والأمن الديني والمرجعية الواحدة ينهضان بدور أساسي في دفع هذا الخطر وإحلال الاستقرار محله، ويتطلب ذلك البحث عن أجوبة تقف فاغرة أفواهها باحثة عن أجوبة – يجب أن تكون عملية أكثر منها قولية – وهي من قبيل:

–       ما السبل الكفيلة باستعادة المنطقة لأمنها الديني وانسجامها المرجعي؟

–       وما الأسباب الدافعة لظهور حالات التطرف والعنف الأعمى؟

–       وهل من سبيل إلى حل؟

–       لعل من الأجوبة المفتاحية لهذه الأسئلة الانتباه إلى ما خلفه التدخل الدولي في مالي وليبيا وما أعطاه من شرعية للجماعات المتطرفة حيث ظهرت وكأنها مدافعة ومواجهة للاستعمار يضاف إلى هذا عدم وجود خطاب ديني مقنع يظهر قيم الوسطية والإسلام السمح.

ثانيا: في سبيل تحقيق مفاهيم العنوان؟

إن وقفة تأملية لعنوان هذه الندوة يكشف أن هناك مشكلا يواجه منطقة الساحل، وأمنها ووحدتها، هو “التطرف”، يراد له حل يوصل إلى نتيجة هي “الاستقرار” والازدهار، يتأسس وينطلق من نظرية هي “الأمن الديني”، من خلال إجراءات ضامنة وضابطة هي “توحيد المرجعيات”، في فضاء مكاني هو “دول الساحل”.

 

ويقتضي النجاح في هذه المهمة الجليلة اتخاذ العديد من الإجراءات، أذكر منها:

 

1-                رؤية ناظمة لمفهوم الأمن الديني: ويتطلب وجود هذه الرؤية دراسة مستوعبة لتاريخ المنطقة في جوانبه المختلفة، وقراءة متأنية للمتغيرات التي عرفتها، واستشرافا لمستقبلها خلال العقود المقبلة، وإدراك المتغيرات المتوقعة فيها بناء على تطورات الحاضر.

 

ولما بد في إعداد هذه الرؤية من الانطلاق من رؤية تحريرية تعطي لإنسان فضاء الساحل والصحراء حقوقه كاملة غير منقوصة قبل أخذ ما عليه، وتبتعد عن التعسف في التعريفات والإجراءات، وتغلب الحرية على التقييد، والبراءة على الإدانة، وتعالج المشاكل بشكل شمولي، فتنتزع ألغام السياسة وتنظف فخاخ الاقتصاد في بداية الإجراءات الشاملة لتجسيد هذه الرؤية.

 

2-                جرد أسباب التهديدات التي يتعرض لها الأمن الديني، وبشكل علمي موضوعي مستوعب وشامل، والاستفادة من تجارب المراجعات والحوارات التي وقعت في أكثر من دولة، وتحديدا في الدول الموجودة ضمن هذا الفضاء، وأقصد ليبيا وموريتانيا، وبحكم المواكبة والمعايشة أقول إن تجربة موريتانيا كانت رائدة، ونجحت بشكل لافت، وكان ستكون أكثر نموذجية لو كتب لها أن تتواصل حتى النهاية.

 

فقد منح كبار علماء البلاد فيها الكلمة الأولى والأخيرة، وكان لهم تحديد أبعاد الأمن الديني في البلاد، وقواعد التحاكم، وسبل التحاور والتشاور، حتى انتهى الأمر إلى النتيجة المعروفة بعودة العشرات ممن اجتالهم التطرف، وأخذ بهم الانحراف طريقا آخر أضحوا فيها خطرا على مجتمعاتهم، ودولهم، ومنطقتهم.

 

3-                توحيد أسس المرجعيات: فالمرجعيات التي كانت تنتظم المنطقة طيلة القرون الماضية، أضحت – كغيرها – تواجه تحديات تفرض أن تزود هذه المرجعيات بآليات دفاع عن ذاتها، وأن تقدم أجوبة على الأسئلة التي ترد عليها.

ويلزم هنا الحديث بشكل علمي عن المذهب المالكي، والذي كان مطبقا على المنطقة ككل،  وكذا الطرق الصوفية الرئيسية في المنطقة كالقادرية والشاذلية والتجانية وغيرهم، فأحد انعكاسات العولمة في عالمنا الإسلامي هي تعريضك لإشكالات بيئة غير بيئتك، ومجتمع غير مجتمعك، وإنهاكك في مواكبة تطورات ومستجدات وأمراض لا حصر لها.

 

4-                مراعاة طابع خصوصية المجتمعات والأعراق والقوميات في منطقة الساحل، فالوحدة مهما اتسعت دائرتها لا بد أن تكون لها حدود تقف عندها ليبقى نوع من التمايز.

وتكون هذه الخصوصية أكثر حساسية كلما شعر صاحبها بتعرضها للخطر، واحترامها نوع من إدارة الخلاف الضروري، والحفاظ على التنوع الذي هو حكمة من الله، وثراء للمجتمعات التي يوجد فيها، وسبيل إبداع وعطاء.

 

5-                وضع قواعد تعاون شامل بين دول الساحل، بما يضمن استثمار مواردها، وتنمية قدراتها، وانعكاس ذلك على شعوب المنطقة، فالأمن الحقيقي هو الأمن الشامل الذي يكون لكل مجال من مجالات الحياة منه حظ ونصيب، وهو الذي يتجاوز مواجهة الأخطار ومعالجة آثارها إلى استباقها وإزالة دوافعها، والقضاء على بذورها قبل أن تزرع أو تنتج.

أدرك أن الحديث شجون، وأن الموضوع له حظه من ماضي المنطقة، وحاضرها، وله انعكاسه على مستقبلها.

ومرة أخرى أجدد تهنئتي لكم على نقاشه، ووضعه على بساط البحث، وبين هؤلاء الخيرة من الخبراء والباحثين، وأنا على ثقة أن ازدحام عقول سيخرج بما فيه الصواب لشعوب المنطقة وأمنها واستقرارها، وازدهارها.

 Fichier 02-03-2017 09 49 53

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

                                                         محمد آب سيدي الجيلاني 

 رئيس مركز الساحل للخبرة والاستشارات

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *